الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
أن النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت وأمر بخلاف الأمر والإثبات فإنه يستقل بنفسه وهذا لأن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم ابتداء ولا يقصد المعدوم ابتداء وقد قررت هذا فيما تقدم وبينت أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم إلا بتوسط تصور الموجود فإذا لم يمكنه تصوره لم يمكنه قصده بطريق الأولى، فإن القصد والإرادة مسبوق بالشعور والتصور والأمر في القصد والإرادة أوكد منه في الشعور والعلم فإن الإنسان يتصور الموجود والمعدوم ويخبر عنهما وأما إرادة المعدوم فلا يتصور من كل وجه وإنما إرادة عدم الشيء هي بغضه وكراهته فإن الإنسان إما أن يريد وجود الشيء أو عدمه أو لا يريد وجوده ولا عدمه فالأول هو أصل الإرادة والمحبة. وأما الثاني وهو إرادة عدمه فهو بغضه وكراهته وذلك مسبوق بتصور المبغض المكروه فصار البغض والكراهة للشيء المقتضي لتركه الذي هو مقصود الناهي وهو المطلوب من المنهي فرعا من جهتين: من جهة أن تصوره فرع على تصور المحبوب المراد المأمور به وأن قصد عدمه الذي هو بغضه وكراهته فرع على إرادة وجود المأمور به الذي هو حبه وإرادته وذلك لأن الإنسان إذا علم عدم شيء وأخبر عن عدمه مثل قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وقولنا: لا نبي بعد محمد وقولنا: ليس المسيح بإله ولا رب وقولنا: ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى أمثال ذلك حتى ينتهي التمثيل إلى قول القائل: ليس الجبل ياقوتا ولا البحر زئبقا ونحو ذلك فإن هذه الجمل الخبرية النافية التي هي قضايا سلبية لولا تصور النفي والمنفي عنه لما أمكنه الإخبار بالنفي والحكم فلا بد أن يتصور النفي والمنفي عنه مثل تصور الجبل والياقوت. والمنفي هو عدم محض ونفس الإنسان التي هي الشاعرة العالمة المدركة بقواها وآلاتها لم تجد العدم ولم تفقهه ولم تصادفه ولم تحسه بشيء من حواسها الباطنة ولا الظاهرة ولا شعرت إلا بموجود لكن لما شعرت بموجود أخذ العقل والخيال يقدر في النفس أمورا تابعة لتلك الأمور الموجودة إما أمور مركبة وإما مشابهة لها فإنه أدرك الياقوت وأدرك الجبل ثم ركب في خياله جبل ياقوت وعرف جنس النبوة وعرف الزمان المتأخر عن مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ثم قدر نبيا في هذا الزمان المتأخر وعرف الإله والألوهية الثابتة لله رب العالمين ثم قدر وجودها بغيره من الموجودات. ثم المؤمن ينفي هذا المقدر من ألوهية غير الله تعالى ونبوة أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم والكافر قد يعتقد ثبوت هذا القدر فيرى ثبوت الألوهية للشمس، أو القمر، أو الكواكب أو الملائكة أو النبيين أو بعضهم، أو الصالحين أو بعضهم، أو غيرهم من البشر أو الأوثان المصنوعة مثلا لبعض هذه الآلهة المتخذة من دون الله سبحانه فالمقصود أن الإنسان لم يمكنه تصور عدم شيء ولا الإخبار به إلا بعد أن يتصور وجودا قاس به عليه، وقدر به شيئا آخر، ثم نفى ذلك المقيس المقدر به، ثم أثبته والفرع المقيس المقدر تبع للأصل المقيس عليه المقدر به فلا يتصور العدم إلا بطريق القياس والتمثيل والتفريع لا بطريق الاستقلال والحقيقة والتأصيل وإن كان بعض الموجودات لا يمكن الناس أو بعضهم أن يتصوره في الدنيا إلا بطريق القياس أو التمثيل لكن من الموجودات ما يدركه الإنسان حقيقة وتأويلا، ومنها ما يدركه قياسا أو تمثيلا، كمدركات المنام. وأما المعدوم فلا يدركه إلا قياسا أو تمثيلا، إذ ليس له حقيقة ينالها الحي المدرك وتباشرها الذوات الشاعرة، إذ حقيقة كل شيء في الخارج عين ماهيته. وأما ما يقدر في العقل من الماهيات والحقائق فقد يكون له حقيقة في الوجود الخارجي العيني الكوني، وقد لا يكون وهكذا الأمر في القصد والحب والإرادة من جهتين: من جهة أن المقصود المحبوب أو المكروه المبغض لا يتصور حبه ولا بغضه إلا بعد نوع من الشعور به والشعور في الموجود أصل، وفي المعدوم فرع فالحب والبغض الذي يتبعه أولى بذلك. ومن جهة أن الإنسان إنما يحب ما يلائمه ويناسبه وله به لذة ونعيم ونفسه لا تلائم العدم المحض والنفي الصرف، ولا تناسبه، ولا له في العدم المحض لذة ولا سرور ولا نعمة ولا نعيم ولا خير أصلا، ولا فائدة قطعا، بل محبة العدم المحض كعدم المحبة واللذة بالعدم المحض كعدم اللذة وما ليس شيء أصلا كيف يكون فيه منفعة أو لذة أو خير؟ ولكن نفسه تحب ما لها فيه منفعة ولذة مثل محبة اللبن عند ولادته، ولغير ذلك من الأغذية ثم لما يلتذ به من منكوح ونحوه ثم ما يلتذ به من شرف ورياسة ونحو ذلك ثم ما يلتذ به من العقل والعلم والإيمان ويحب ما يدفع عنه المضرة من اللباس والمساكن والخير الذي يقيه عدوه من الحر والبرد والآدميين المؤذين، والدواب المؤذية وغير ذلك فيحب وجود ما ينفعه وعدم ما يضره. والنافع له إنما هو أمر موجود كما تقدم وأما الضار له فتارة يراد به عدم النافع فإن أكثر ما يضره عدم النافع. وعدم النافع إنما يقصد بوجود النافع. وتارة يضره أمر موجود فذلك الذي يضره لم يبغض منه إلا مضرته له ومضرته له إزالة نعيمه أو تحصيل عذابه. فإن قيل: ما ذكرته معارض، فإن القرآن من أوله إلى آخره يأمر بالتقوى ويحض عليها حتى لم يذكر في القرآن شيء أكثر منها وهي وصية الله إلى الأولين والآخرين وهي شعار الأولياء وأول دعوة الأنبياء وأهل أصحاب العاقبة، وأهل المقعد الصدق إلى غير ذلك من صفاتها. والتقوى هي ترك المنهي عنه وقد قال سهل بن عبد الله: أعمال البر يعملها البر والفاجر ولن يصبر عن الآثام إلا صديق. وفي تعظيم الورع وأهله، والزهد وذويه، ما يضيق هذا الموضع عن ذكره؛ وانما ذلك عائد إلى ترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، وهي بقسم المنهي عنه أشبه منها بقسم المأمور به، والناس يذكرون من فضائل أهل هذا الورع ومناقبهم ما لا يذكرون عن غيرهم. فنقول: هذا السؤال مؤلف من شيئين: جهل بحقيقة التقوى والورع والزهد. وجهل بجهة حمد ذلك. فنقول أولا: ومن الذى قال إن التقوى مجرد ترك السيئات؛ بل التقوى كما فسرها الأولون والآخرون فعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه. كما قال طلق بن حبيب: لما وقعت الفتنة اتقوها بالتقوى. قالوا: وما التقوى. قال إن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله ؛ وان تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عذاب الله. وقد قال تعإلى في أكبر سورة في القرآن: وقد دلت على أمور: أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة هذه الأمور فعل مأمور به. الثاني: أنه أخبر أن هذه الأ مور هي البر، وأهلها هم الصادقون ـ يعنى في قوله آمنا ـ وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والايمان من عدم المنهي عنه وبهذه الاسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعإلى: وفي البخارى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (عودوا المريض واطعموا الجائع وفكوا العاني)؛ وفي الحديث الذى أفتى به أحمد (لو صدق السائل ما أفلح من رده)؛ وأيضا فالرسول مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، فاتحة دعواهم في هود أن ونقول ثانيا إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي إن قيل ذلك كما في قوله: ونقول ثالثا: إن أكثر بنى آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون، كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق، فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به، لا تتصور تقوى وهي فعل ترك قط؛ فان من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلابد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التى أمروا بها وتمنعهم من السيئات التى تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فان وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد، فلا يسلم له، ولهذا كانت العاقبة للتقوى، كما قال تعإلى: وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه، وكانت عاقبته سليمة. وغير المتقى بمنزلة من خلط من الأطعمة فإنه وإن إغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه أمراضا، إما مؤذية وإما مهلكة ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الاغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التى تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها، بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا، وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة وقد يخاف عليه العطب، وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة. فالأول: نظير من ترك المأمور به، والثاني: نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والثالث: نظير المتقى الذى فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط فإنه ليس في الآخرة دارا إلا الجنة أو النار، فمن سلم من النار دخل الجنة، ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب، والنعيم جميعا. فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولابد تضمنا او استلزاما، وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب. وكذلك الورع المشروع والزهد المشروع من نوع التقوى الشرعية، ولكن قد غلط بعض الناس في ذلك فأما الورع المشروع المستحب الذى بعث الله به محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو اتقاء من يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التى تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التى تشبه الحرام وإن ادخلت فيها المكروهات قلت نخاف أن تكون سبب للنقص والعذاب. وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؛ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع. وقولي عند عدم المعارض: الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أوالمشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج و الغزو وكذلك قد لا يؤدى الواجب البين، أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم اثما من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه. والأصل في الورع المشتبه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه)، في الصحيحين وفي السنن قوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله: (البر ما اطمأنت اليه النفس وسكن اليه القلب)، وقوله في صحيح مسلم في رواية: (البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس) وأنه رأى على فراشه تمرة فقال: (لو لا انى اخاف ان تكون من تمر الصدقة لأكلتها). وأما في الواجبات لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب وهذ يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكإذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم ومعاملة فاسدة ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية، وقد تعينت عليه، من صلة رحم؛ وحق جار؛ ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل؛ وحق مسلم وذى سلطان وذى علم وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله؛ إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعإلى بل من جهة التكليف ونحو ذلك. وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاده أهل السنة والجماعة. الجهة الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغى أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن اشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم في أوهام وظنون كإذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعإلى فيه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23]، وهذ حال أهل الوسوسة في النجاسات فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم. وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهه أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذى سلطان لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة . وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع. وقد روي مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثا. وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الاسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعإلى في القرآن من ورعهم عما حرمو ولم يحرمه الله تعإلى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. ومن هذا الباب الورع الذى ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى في الصحيح، لما ترخص في اشياء فبلغه ان اقواما تنزهوا عنها فقال: (ما بال رجال يتنزهون عن اشياء اترخص فيها والله انى لأرجو أن اكون اعلمهم بالله واخشاهم) وفي رواية: (اخشاهم وأعلمهم بحدوده له) وكذلك حديث صاحب القبلة. ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم. الثالثة: جهة المعارض الراجح. هذا أصعب من الذى قبله؛ فإن الشىء قد يكون جهة فساده يقتضى تركه فيلحظه المتورع؛ ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح؛ وبالعكس فهذا هذا. وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذى فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقوامًا هم إلى النجاة والسعادة أقرب. وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة، فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد؛ وكذلك أهل الزهد الناقص أوالفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح، فترك فضول المباح الذى لا ينفع في الدين زهد وليس بورع، ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روي الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ما ذئبان جائعان ارسلا في زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) قال الترمذي حديث حسن صحيح فذم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحرص على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان وأخبر ان ذلك يفسد الدين مثل أو فوق افساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذى هو الإيمان والعمل والصالح فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران في قوله تعإلى: وقد قال تعإلى لنبيه وأصحابه: وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات والله أعلم كما جاء في الحديث: (من طلب هذا المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسالة وعودا على جاره الضعيف والأرملة والمسكين لقى الله تعإلى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا مكاثرا لقى الله وهو عليه غضبان)، وقال: (التاجر الامين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)، وقال: (نعم المال الصالح للرجل الصالح). واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص أما في الورع بفعل المأمور به فظاهر فإن الله تعإلى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه؛ وإما بترك المنهي عنه الذى يسميه بعض الناس ورعا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله اثيب عليها؛ ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه، ورجاء رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها فتبين أن الورع لا يكون عملا صالحا الإ بفعل المأمور به من الرجاء والخشية والإ فمجرد الترك العدمى لا ثواب فيه. وأما الزهد الذى هو ضد الرغبة فإنما يحمد حمدا مطلقا وتذم الرغبة لترك العمل للآخرة قال تعإلى: فمن زهد لطلب راحة الدنيا أو رغب لطلب لذاتها لم يكن واحد منهما في عمل صالح ولا هو محمود في الشرع على ذلك ولكن قد يترجح هذا تارة وهذا تارة في مصلحة الدنيا كما تترجح صناعة على صناعة وتجارة على تجارة وذلك أن لذات الدنيا لا تنال غالبا إلا بنوع من التعب فقد تترجح تارة لذة الترك على تعب الطلب وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك فلا حمد على ترك الدنيا لغير عمل الآخرة كما لا حمد لطلبها لغير عمل الآخرة. فثبت أن مجرد الزهد في الدنيا لا حمد فيه كما لا حمد على الرغبة فيها وإنما الحمد على إرادة الله والدار الآخرة والذم على إرادة الدنيا المانعة من إرادة ذلك كما تقدم؛ وكما في قوله تعإلى: أحدها: أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها بل كان يكون فعله وتركه سواء أو يرجح هذا أو يرجح هذا ترجيحا دنيويا. الثاني: أنه إذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا والآخر زاهد في الدنيا والآخرة لكان الأول منهما مؤمنا محمودا والثاني كافرا ملعونا مع أن الثاني زاهد في الدنيا والأول طالب لها لكن امتاز الأول بفعل مأمور مع أرتكاب محظور والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به فثبت أن فعل المأمور به من إرادة الآخرة ينفع والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع. الثالث: المحمود في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة والمذموم إنما هو من ترك إرادة الدار الآخرة واشتغل بإرادة الدنيا عنها، فاما مجرد مدح ترك الدنيا فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير دينى فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها فإنها لم تصف لاحد قط ولو نال منها ما عساه أن ينال وما امتلأت دار حبرة الا امتلات عبرة فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون اليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لابد لهم منه منها وأكثرهم طالب لما يذمه منها، وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوى لما فيها من الضرر الدنيوي، كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التى لا ربح فيها بل فيها تعب وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الأمور التى لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا ـ أيضاـ ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعا في الآخرة كإضاعة المال والعبادات الشاقة التى لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة ، وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس والأموال في الجهاد في سبيل الله؛ وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثير من العبادات، وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود أيضا فالأقسام سبعة. فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود سواء ضر في الدنيا أو نفع، أو لم ينفع ولم يضر؛ وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا، وبقى ثلاثة أقسام ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة وضارا في الدنيا غير نافع في الآخرة والنافع محمود والضار مذموم؛ والقسم الثالث فيه قولان قيل لا حمد فيه ولا ذم وقيل بل هو مذموم فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه، وأعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الآخرة ولكن الإنسان قد يعدد المصائب وينسى النعم فقد يذم أمورا كثيرة لمضرة تلحه ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما قال تعإلى: أحدها: أن قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لكنى أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى). والثاني: أن زهد هذا أوقعه في فعل محظورات كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام أو سأل الناس المسألة المحرمة أو استشرف إليهم والاستشراف مكروه. والثالث: من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدا بطالا فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة كما قال عبدالله بن مسعود: إنى لأكره أن أرى الرجل بطالا ليس في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة وهؤلاء من أهل النار، وكما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الذى رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اهل النار خمسة)، فذكر منهم (الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا). فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده أو فعل سيئات منهيا عنها أو دخل في الكسل والبطالات فهو من الاخسرين أعمالا ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين. فهذه جملة مختصرة في الزهد، وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم. واحذر ان تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين فإن الفاسق المؤمن الذى يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم، وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا.
|